كي نبقى في خندق الوطن
الثلاثاء، 26 شباط، 2013
أوقات الشام
نحن نعيش في هذه الأيام اللحظات الأصعب والأدق والأخطر من عمر الحرب على سورية . إنها اللحظات التي يتقرر فيها الإختيار بين تسوية تراعي ميزان القوى ، وبين حرب تُعيد رسم الخرائط وشكل المنطقة والعالم . فمن جهة لم يعد من الممكن السماح بإستمرار الأزمة ضمن هذا السياق ، وعلى هذا النحو . كما لا يمكن ضمان كلّ الأطراف فلا يرتكب أحدها خطأ ما - على نحو مقصود أو غير مقصود - فيفجر كامل المشهد ويطلق العنان لسيناريو " يوم القيامة " و " الزلزال " الذي سيصدع كامل الإقليم من جهة أخرى .
لقد أصبح واضحاً لكل متابع أن المجموعات المسلحة الإرهابية تتراجع على طول البلاد وعرضها ، وأن بؤر سيطرتها في تناقص مستمر ، وأن بعض الأحياء في المدن وبعض القرى والنواحي التي كانت تسيطر عليها أو أو تنتشر فيها آخذت بالتقلص على نحو سريع جداً . ففي درعا هم الآن في بعض القرى والبراري مطاردين وملاحقين ، إلى حماة التي تخلصت من شرورهم ، وكذلك الأمر في حمص التي كانت يوماً ما " ستالينغرادهم " ، إلى بانياس واللاذقية وأريافها ، فدمشق التي أصبحوا اليوم يلفظون فيها أنفاسهم الأخيرة في داريا والمعظمية والزبداني وقريبا داريا وما حولها ، فحلب التي يضرب اليوم الجيش في المدينة القديمة منها بكل قوة ويطهرها حيّاً حيّاً ، وينسحب من بعضها تلك العصابات حتى قبل أن يدخلها الجيش ، وصولاً للأرياف القريبة والمتوسطة البعد . حتى أن الجيش العربي السوري بدأ مؤخراً بتوجيه ضربات نوعية وبالغة الدقة والتأثير على الحدود مباشرة مع تركيا . كلنا عرف هذه الحقيقة الميدانية ، ولكن لتأثير بعض العمليات الإجرامية الضخمة يبدو للبعض وكأن الجيش لم يحقق الكثير ولم يحرز أي تقدم ذا معنى . وهذا مرده إلى أسباب عدة منها ضعف التغطية الإعلامية الرسمية لعمليات الجيش العربي السوري ، وقوة الإعلام المعادي ، والعمليات الإرهابية الجبانة والتي في القلب من أهدافها هو هزّ ثقة المواطن في جيشه وقواه المسلحة وإنتصاراتها ، وإستعجال الحلول ، وإغراء الأمس بعيشه الآمن وبحبوحته الإقتصادية ... .
أحيانا كثيرة ننسى قاعدة جوهرية في الحروب وهي تقول " إن قساوة وطول الحرب يعتمد على حجم أهدافها ، وإرادة وتصميم أطرافها ، وحجم الطاقات والقوى المسخرة لتحقيق هذه الأهداف وكسر تلك الإرادة وذلك التصميم ، والمخزون الحضاري والتاريخي لكل طرف ، وعدالة القضية التي لأجلها خيضت الحرب أو أًشهر الدفاع ، وعمق الإيمان بهذه القضية " .
أهداف الحرب :
فلنراجع دائماً أسباب هذه الحرب ولتبقى حيّة حاضرة في عقولنا وقولبنا ، وإياكم أن تقولوا مَللنا من تردادها ، لأن تردادها يعني أنها حاضرة في الذهن ، وقريبة من ساحة الفعل في أي لحظة تستوجبه " فعندما تعرف دائما وفي كل الأحوال حجم الحرب التي تخاض ضدك ، لن تتردد مثلاً بتلبية نداء الوطن في الإلتحاق بالتجنيد أو دعوة الإحتياط ، أو التبليغ عن أي حركة مريبة ، أو التسامي فوق بعض الترفيات بل وحتى الأساسيات المفقودة ... " .
الإرادة والتصميم :
كما قلت سابقاً ، فإن أعداء سوريا من عرب وعجم ، يتلهفون لرؤية لحظة تتراخى فيها القبضات وتتشتت النظرات وتتوه البوصلة ، لينقضوا بضربة مفاجئة وصادمة وقاضية لينالوا من سوريا ، كل سوريا مرة واحدة وإلى أطول مدى ممكن . في معركة أحد أصيب محمد " ص " عدة إصابات وسال دمه فظن من ضربه أنه أصابه في مقتل ، فصاح " إن محمد قد قتل " ، فسمع صحب محمد بذلك الخبر ، فخارت قواهم وتراخت قبضاتهم وأنهارت معنوياتهم . فجاء رجل وصاح بهم : ما بكم تبكون ، ولماذا ألقيتم بسلاحكم ؟ فقال أحدهم : إن محمد قد مات . فرد عليه بجواب يختصر المسيرة كاملة ، ويظهر الحقيقة كاملة . إن كان محمد قد مات فعلى ماذا تبقون بعده ؟ قوموا فأنصروا دينكم وخذوا بثأركم لمحمد . نعم ، إن ما نعيشه هو صعب ومتعب ، إنه يشبه مأساة لن تنتهي . ولكن وبصدق إن النهايات قريبة ، ولكن في النهايات يحاول كل طرف أن يقدم أقصى ما لديه من إرادة وتصميم ، ويستعمل أقصى ما لديه من قوة ، ويسخر أقصى ما لديه من طاقات .
الطاقات والقوى المسخرة :
وأمّا خصوص الطاقات والقدرات المسخرة فكلكم يعرف حجمها الهائل الذي سخر في هذه الحرب الأقسى والأوسع على سوريا ، من أموال بالمليارات ، وأسلحة لا تنتهي ، ودعم سياسي لا محدود ، وشراكة حقيقية مع الإرهاب العالمي المنظم ، وإستجلاب لقطعانه من أصقاع الأرض بجهاتها الأربعة ، وتسخير لمئات من الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والصحف والمجلات والكتاب والمحللين والسياسيين والفنانين ... ، وشراء لذمم العشرات من شيوخ ومفتي الإرتزاق والتمول ، بل وصل الأمر إلى مقايضة الموقف السياسي لبعض حكام الدول والمسؤلين والوزراء والمندوبين بمال النفط والغاز ... وسأذكر هنا معلومة سمعتها شخصيّاً من مصدر مهم ومطلع ، وهذا الرجل يعمل كدبلوماسي حاليّاً ، وكان أحد ضباط الجيش العربي السوري الكبار سابقاً " تقول هذه المعلومة " إن عدد أفراد المجموعات الإرهابية المسلحة التي قاتلها منذ عامين حتى اليوم الجيش العربي السوري هو " 250000 ، مئتان وخمسون ألف " أرهابي من سوريا ومن خارجها ، قتل أكثر من نصفهم حتى قبل عشرة أيام تقريباً " .
المخزون الحضاري والتاريخي :
عندما تم الأعتداء على رئاسة الأركان قرب ساحة الأمويين لماذا تم إستهداف نصب وزير الدفاع السوري الراحل يوسف العظمة ؟ ولماذا تم إستهداف المسجد الأموي في دمشق وحلب ؟ ولماذا تم حرق السوق التاريخي المغطى في حلب ؟ ولماذا تم إستهداف قلعة حلب وقلعة حارم ؟ ولماذا يحطم رأس تمثال المعري ، وفقط رأسه ؟ لماذا تستهدف المساجد والكنائس ؟ ولماذا هذه الرائحة الطائفية والمذهبية النتنة التي تفوح من تلك الجماعات الإرهابية المسلحة ؟ بل ولماذا سرقة الآثار والأوابد التاريخية وبيعها بأبخس الأثمان للأتراك والصهاينة وغيرهم ؟ ولماذا تسرق مصانع وخطوط إنتاج المصانع والمعامل في حلب ؟ ولماذ تقصف المدارس والمعاهد ومراكز البحوث والجامعات ؟ ولماذا تفصل المدن عن بعضها وتحاصر لأحياء بعضها البعض ؟ لماذا إستهداف الأدباء والمفكرين ورجال الدين والسياسيين والممثلين ؟ لماذا يجب أن تعيش سوريا بمدنها وقراها بالبرد والظلام والعزلة والخوف ؟ لماذ يتم تهشيم وتحطيم كل القيم السامية التي سادت في سوريا لقرون ؟ لماذا يتم تحطيم القيمة المعنوية لشخصيات ومؤسسات بعينها ؟ أسئلة لا تحصى ، وعند الإجابة عليها نكتشف بكل يسر أن جزء من الإجابة يتعلق تلك الرغبة الجامحة والسافرة في تحطيم الإرث الحضاري والتاريخي للمجتمع السوري ، ليخلقوا مجتمع فاقد للهوية ، كاره لإرثه الحضاري وعدو له . وبذا يصبح طيّعاً ومؤهلاً لإستيعاب " ثقافة الإنتحار المسمى ربيعاً عربيّاً " .
عدالة القضية :
يحاول هنري ليفي والقرضاوي وحمدي قطر وسعود الفيصل وأردوغان وأوغلو وهيلاري كلنتون وساركوزي وهولاند وجوبيه ونتنياهو وعباس ومرسي ... إقناعنا بأنهم دعاة حرية وسلام ، بأنهم قديسي القرن الواحد والعشرين ، وأنهم ابن رشد العقل ، وفارابي المدينة الفاضلة ، وحلاج الحب ، وابن عربي العشق الوَلِه بدمشق ، وكواكبي حلب ... رأيناهم يجتمعون أصدقاء لسوريا مرة وأصدقاء للشعب السوري مرات ، ولم نرى من حبهم وفلسفتهم وصوفيتهم وعقلهم إلا الحقد والجشع ، والرغبة الأكيدة بالإحتفال بفصل رأس آخر سوري عن جسده ، وجرف آخر قرية أو حي فيه عيش مشترك بين كل ألوان الحديقة السورية ، وسرقة آخر خط إنتاج عمره من عمر البشرية أتقن الإنتاج والإبداع والتسويق لأطراف الكون ، وإسكات دور العلم والعبادة والبحث والمشافي التي ما زال صوت ابن سينا يصدح فيها ، وترويع كل المدن التي طالما كانت الحضن الذي يلجأ إليه كل مُرَوَع ، وإحراق سنابل القمح التي أطعمت روما يوما ما وأنقذتها من الموت جوعاً ، وسرقة الطحين الذي سدّ جوع مصر النيل ويمن سبأ قبل خمسة أعوام على أبعد تقدير ، وتحطيم السدود والسواقي التي ألبست الأرض اليباب القاحلة حُلّة سماوية خضراء وروت عطش أبناء الأردن لسنوات ، يريدون تطويع سوريا التي تعلمت مبكراً كيف تكسر الغزو وتهزم الغزاة ، وكيف تحتضن الثورة والثوار ، يريدون زراعة رائحة الدم والقتل بدل رائحة الكرامة والياسمين ، يريدون أن إسقاط دعوة محمد " ص" بحق الشام " اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا " ، يريدون إسقاط آخر المدن الحقة ، وآخر الإنسان الحق ، وآخر البنادق الحق . فأي عدالة يمكن أن تكتسبها قضيتهم ، وأي عدالة يمكن أن تنزع عن قضيتنا ؟ نحق الحق كلّه وهم الباطل كلّه . والحق يعلو ولا يعلى عليه ، وغداً لناظره قريب .
الإيمان بالقضية :
لم يكن النصر يوماً حليفاً إلا لأكثر الأطراف إيماناً بقضيتها ، وعدالة هذه القضية ، وقيمتها الكبرى والتي تفوق قيمة أي تضحية ممكنة في سبيل الحفاظ على بقاء هذه القضية ونصرها وهزيمة العدوان عليها . خلال الدفاع عن هذه القضية بكل تأكيد سيكون هناك ضحايا وتضحيات ، ولكن إن خسرت ما تدافع عنه فلن تكون أنت ولن يبقى من دافعت عنه ، فأقصر الطرق للحفاظ على الوطن وعلى أهل الوطن هو النصر وإسقاط العدوان عليه . وكوننا على الحق ، ونصد العدوان عن الحق فإننا منتصرون ولن نهزم . إيماننا لا يهتز ويقيننا لا يتزحزح ودحر العدوان غاية الغايات والحفاظ على الوطن قمّة الأولويات . عامان عجاف وصبرنا سيحول هذين العامين إلى منصة لبناء سوريا الحلم ، الحلم الذي سيكون كابوساً لأعدائنا وملحمتنا الكبرى التي سوف يتحدث عنها العالم والتاريخ طويلاً جداً جداً .
abo fateh